مفهوم سيادة القانون في الفكر القانوني المقارن

مفهوم سيادة القانون في الفكر القانوني المقارن

د.صبري محمد خليل /جامعه الخرطوم sabri.khalil30@yahoo.com

تعريف المفهوم: لا يمكن تعريف مفهوم سيادة القانون إلا بالتمييز بين تفسيرين له:

الاول :التفسير الشكلي: ويتعلق بوجود القانون ذاته . و قد حدد فقهاء القانون شروط هذا التفسير لمفهوم سيادة القانون كالاتى: أولا:  وجود قانون مكتوب، ثانيا: تطبيق هذا القانون ، ثالثا : تقيد  السلطات العامة بهذا القانون ،رابعا:أن يكون هذا القانون كما تفسره المحاكم هو مصدر صلاحيات السلطات.
الكهنوت والثيوقراطيه: وكمثال يتصل بهذا التفسير ، فقد كانت مشكله سيادة القانون مطروحة، قبل ستة قرون في أوربا ،على وجه  أخر ،هو  ليس ان يسود القانون او لا يسود، بل هل ثمة ضرورة لوجود القانون، أم تغنى عنه حكمه رجال الدين والأمراء والملوك، الذين يمثلون كلمه الله في الأرض .

الاستبداد: ومثال أخر يتصل بهذا التفسير لمفهوم سيادة القانون هو الاستبداد، فالنظام الاستبدادي هو أساسا نظام سياسي لا يلتزم بالنظام القانوني السائد في المجتمع، ويستند إلى قوته الباطشة، فهو دوله القوه المادية وخارج نطاق النظام القانوني.وهو ارتداد إلى الصورة التي ثارت من قبل وجود الدولة اى النظام القانوني في المجتمع، اى عدم  وجود القانون  فضلا عن سيادته.

الثاني : التفسير الجوهري: لا يتعلق بوجود القانون او عدم وجوده، بل بسيادة القانون داخل مجتمع منظم قانونا ، اى ان القانون في هذا التفسير للمفهوم موجود لكن تنقصه السيادة،ومضمون هذا التفسير يتعلق بالتزام الدولة ممثله في سلطاتها التشريعية والتنفيذية بالقانون . إذا هذا التفسير لمفهوم سيادة القانون لا يكتفي بوجود قانون ينص على قاعدة قانونية تحكم موضوعا معينا ،بل يتطلب فحص النص القانوني وكيفية تطبيقه وتقييمه وفق مبادئ ومعايير وقيم معينه هي: أولا: ثبات القانون و تفسيره،ثانيا :علانية القانون،ثالثا : عدم جواز معاقبة إنسان بدون محاكمة عادلة،رابعا : المساواة إمام القانون،خامسا : أن يكون القانون معبرا عن  إرادة الشعب من خلال ممثليه (سامر أحمد موسى- الحوار المتمدن – العدد: 1975 – 2007 / 7 / 13 – 11:18) .  لذا يعرف ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 م مفهوم سيادة القانون كالاتى : «يشير مفهوم سيادة القانون إلى مبدأ للحكم يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات والقطاعات العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علناً، وتطبق على المجتمع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاءٍ مستقل وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان».

سيادة القانون والشرعية: ويتصل مفهوم سيادة القانون بمفهوم الشرعية ،وإذا كانت الشرعية تنقسم إلى : شرعيه شكليه مضمونها ” ان يكون الفعل متفقا مع القواعد الامره و الناهية  للنظام القانوني، وشرعيه موضوعية مضمونها” اتفاق النظام  القانوني مع المصالح التي ينبغي ان تحميها هذه القواعد” ، فان بعض الباحثين يرى ان  سيادة القانون ذات صله أوثق بالسيادة الموضوعية (د.عصمت سيف الدوله ، الطريق ، ج2، ص 28).

الديموقراطيه: والديموقراطيه هي شرط  لتوافر سيادة القانون، لأنه بالديموقراطيه ” التي تعنى ان يكون النظام القانوني متفقا مع ما يريده الناس ” يكون النظام القانوني متفقا مع غاية التطور الاجتماعي كما يحددها الإنسان ،الذى هو العامل الحاسم في التطور.

العدالة الاجتماعية:كما ان العدل الاجتماعي هو شرط آخر لسيادة القانون، سلبا بتحرير الناس من القهر الاقتصادي، وإيجابا بتوظيف كل الإمكانيات لخدمه التطور الاقتصادي للجميع.

مفهوم سيادة القانون  في الفكر القانوني الغربي:

المفهوم الليبرالي لسيادة القانون: تستند الليبرالية كمنهج إلي فكره القانون الطبيعي، ومضمونها( أن مصلحه المجتمع ككل، تتحقق حتما من خلال عمل كل فرد فيه على تحقيق مصلحته الخاصة).وتطبيقا لهذا المنهج فان المفهوم الليبرالي لسيادة القانون يعنى وقوف القانون موقفا سلبيا من الحريات الفردية ، اتكالا على ان ثمة قانون طبيعي بنظم تلك الحريات ،ويحملها على وجه يجعلها تؤدى وظيفتها الاجتماعية تلقائيا( د.عصمت سيف الدولة، الطريق ،ج 2 ص39 )، فسيادة القانون في الليبرالية إذا تتحقق عندما لا يسمح النظام القانوني للدولة بالتدخل في النشاط الفردي، وكما ان سيادة القانون في الليبرالية  تنتفي عندما يسمح النظام القانوني للدولة بالتدخل في النشاط الفردي.

 وأهم أوجه النقد التي يمكن ان توجه إلى المفهوم الليبرالي لسيادة القانون هي ان  مسلمه عدم تدخل الدولة قد سقطت عبر تاريخ النظام الراسمالى ذاته في الغرب. غير ان أكثر ما قدمه الفكر الليبرالي جديه لضمان سيادة القانون هو الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام ، فما دام مقياس سيادة القانون هو غاية محدده من قبل بحكم القانون الطبيعي المستقر في ضمائر الناس، فان الأمر كله يصبح متوقفا على معرفه هذه الغاية، وافصل وسيله هي ترك الناس يقول ما يريدون من النظام القانوني (لاستفتاء)

الماركسية: تناولت الماركسية مفهوم سيادة القانون وغيره من المفاهيم السياسية طبقا للمنهج المادي الجدلي والمادية التاريخية التي هي محصله تطبيقه على التاريخ،والتي مضمونها أن البنية الفوقية (الفن والفلسفة والأخلاق والنظم السياسية ) مجرد عاكس للتطور الجدلي الحادث في البنية التحتية (أسلوب الإنتاج الذي يضم النقيضين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج ) . وهو ما يعبر عن نفسه في صورة صراع طبقي بين الطبقة التي تمثل أدوات الإنتاج والتي تمثل علاقات الإنتاج. وهذا التطور يتم عبر أطوار هي الشيوعية البدائية فالعبودية فالإقطاع فالراسماليه فالشيوعية العلمية وأولى مراحلها الاشتراكية .والدولة والقانون وجهان لعمله واحده، فمن حيث الأسس كلاهما ينتميان إلى البناء الفوقي ،ويعكسان القاعدة المادية ويتطوران معها ،ومن حيث الوظيفة يؤديان معا وظيفة واحده، القانون يأمر والدولة تنفذ ،و من حيث الطبيعة كلاهما أداه ردع طبقي ،فالقانون ليس إلا أداه للصراع الطبقي، وكل دوله هي قوه خاصة لردع الطبقة المقهورة، ومن حيث النشاْه كانا وليدي مرحله تاريخية معينه(ظهور الملكية الخاصة في الطور العبودى)، ومن حيث المصير سينتهي وجودهما معا في الطور الشيوعي العلمي.والدولة والقانون في دوله البروليتاريا –مرحله انتقالية بين الراسماليه والشيوعية-أداه قهر طبقي تمارس بها البروليتاريا سيطرتها على الطبقة البرجوازية. أما كيف تتحدد مصلحه البروليتاريا فاستنادا إلى المادية فان مصلحه البروليتاريا محدده ماديا وموضوعيا سواء كانوا واعين بها أم لا ،وإذا كانوا غير واعين بها فان هذا لا يعنى أنها ليست مصلحتهم الحقيقية بل أن لطليعتهم (الحزب الشيوعي) أن توعيهم بها..

فسيادة القانون إذا لا تتحقق في الماركسية – مؤقتا – إلا من خلال دوله البروليتاريا –كمرحله انتقالية بين فالراسماليه والشيوعية-وباعتبارها أداه قهر طبقي تمارس بها البروليتاريا سيطرتها على الطبقة البرجوازية. أما عند تحقق الغاية النهائية  للتطور الاجتماعي طبقا للماركسية اى الطور الشيوعي وزوال الدولة، فلا مجال للحديث عن سيادة القانون، بل عن زوال القانون والدولة معا.

تقويم : ان حل مشكله الشرعية وسيادة القانون متوقف على تحديد الغاية الموضوعية لتطور المجتمع ،بحيث تقاس عليها غاية النظام القانوني فنعرف من هذا القياس ما إذا كانت الشرعية متوافرة فيه أم لا ،وقد حاولت تلك المدارس الفكرية تحديد تلك الغاية لكنها فشلت لأنها انتهت إلى اعتبار النظام القانوني ذانه  كمقياس لها، فأصبح هو ذاته مصدر الشرعية وسيادة القانون

سيادة القانون في الفكر القانوني الاسلامى:

أولا: اصول الفكر القانوني الاسلامى: يتسق  الفكر القانوني الاسلامى في أصوله مع مفهوم سيادة القانون طبقا لدلالته العامة المشتركة، فهو أولا: يتفق مع التفسير الشكلي للمفهوم،والمتعلق بوجوب وجود قانون ينظم حركه  المجتمع ، من خلال تقريره وجوب أن تحكم العلاقات بين الناس في المجتمع قواعد عامة مجرده سابقه علي نشأة تلك العلاقات هي الشريعة الاسلاميه اى النظام القانوني الاسلامى، يقول تعالى{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ً}[الأحزاب: 36] ، ويقول تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }- [النساء: 59]، ويقول الرسول( صلى الله عليه وسلم) «السيد الله تبارك وتعالى». (فكما جهد الفلاسفة اليونان في أثينا من أمثال أفلاطون وأرسطو على العمل على صياغة معرفة فلسفية حول مبدأ سيادة القانون «The rule of law» …وضع الإسلام كذلك الشريعة الإسلامية كمنظومة ناظمة لمختلف مشارب الحياة، وعمل فقهاء المسلمين في القرن الثاني عشر على تجذير سيادة القانون عبر نشر «الشريعة الإسلامية» كدستور ينظم العلاقات التجارية، السياسية، الاقتصادية والبنكية، وكذلك شددت الشريعة الإسلامية أن لا أحد يدعي أنه فوق القانون، ولا حتى الخليفة، ولقد عمل أبناء ذلك الجيل على نشر ثقافة المساواة أمام القانون)(محمد الصادق – سيادة القانون» متى.. كيف.. ولماذا؟ – جريدة الدار الكويتية – 1 / 11 / 2009م ).كما يتفق الفكر الاجتماعي الاسلامى مع التفسير الجوهري للمفهوم والمتعلق بالتزام الدولة ممثله في سلطاتها التشريعية والتنفيذية بالقانون ومعاييره، حيث تشير إليه كثير من النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»

ثانيا: مذاهب الفكر القانوني الاسلامى: أما على مستوى مذاهب الفكر القانوني الاسلامى الاجتهادية فإننا نجد العديد من المذاهب التي يتسق بعضها مع مفهوم سيادة القانون، ويتعارض بعضها معه.

مذاهب التعارض:
مذهب التصور التشبيهى لمفهوم التشريع  : من هذه المذاهب التي تتعارض مع مفهوم سيادة القانون ذلك المذهب في الفكر القانوني والسياسي  الاسلامى الحديث ، الذى يرتب علي مقولة الشارع هو الله تعالى  – وهى مضمون الدلالة الدينية لمصطلح تشريع – نفي حق البشر في وضع القواعد القانونية إطلاقا، وذلك استنادا إلى ما فهموه من مقولات لابو الأعلى المودودي وسيد قطب في تفسير مفهوم  الحاكميه الالهيه، وقد أشار  الهضيبى إلى هذا المذهب بقوله (وقد توهم البعض أن قائل تلك المقولة -ألحاكميه لله – يري استحالة أن يأذن الله تعالي للناس أن يضعوا لأنفسهم بعض التنظيمات أو التشريعات التي تنظم جانبا من شئون حياتهم)(دعاه لا قضاه). وهو مفهوم تشبيهي يتناقض  مع المفهوم التنزيهي لكون الشارع هو الله بمعني أن له تعالي وحدة حق وضع القواعد – الأصول، المطلقة عن قيود المكان  والزمان ،والتي لا تخضع للتغير والتطور مكانا وزمانا(التشريع)، وانه تعالي متنزه عن المكان والزمان، واستخلف الجماعة المسلمة في إظهار شرعه في الأرض، بان أوكل إليها حق وضع القواعد – الفروع ، المحدودة بالمكان والزمان وبالتالي تخضع للتغير والتطور مكانا وزمانا (الاجتهاد) ،والتي هي إظهار للقواعد – الأصول في زمان معين ومكان معين . كما ان هذا المذهب ينفى حق الدولة في إصدار قواعد قانونيه . لأنه يخلط بين الدلالة الدينية لمصطلح تشريع والسابق بيانها، والدلالة القانونية للمصطلح، والتي مضمونها حق الدولة في تبنى قواعد فقهيه –   قانونيه– معينه لتصبح ملزمه للناس،وهى الدلالة التي قررها الفقه القانوني الاسلامى بتقريره للعديد من القواعد مثل : “للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات” و “أمر الإمام يرفع الخلاف” و “أمر الإمام نافذ ” .

 مذهب الاستخلاف الخاص: ومن هذه المذاهب التي تتعارض مع مفهوم سيادة القانون ،ذلك المذهب في الفكر القانوني والسياسي الاسلامى، والذي يقارب مذهبي الثيوقراطيه والكهنوت ،والذي يمكن ان يطلق عليه اسم مذهب الاستخلاف الخاص، والقائم على ان الحاكم ينفرد دون الجماعة بالاستخلاف عن الله في الأرض، وهو مذهب قال به بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين، وقال به الشيعة في حق ألائمه من أحفاد على (رضي الله عنه).ووجه الخطأ في هذا المذهب هو أن الاستخلاف الخاص مقصور على الأنبياء،وبختم النبوة وبوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتهى هذا النوع من أنواع الاستخلاف، والقول بهذا المذهب يعنى المساواة بين الحاكم والنبي في الدرجة.

مذاهب الاتفاق:

مذهب الاستخلاف العام: أما المذاهب التي تتفق مع مفهوم سيادة القانون فاهمها مذهب الاستخلاف العام الذى مضمونه إسناد كل من السلطتين الدينية والسياسية للجماعة – الشعب بموجب مفهوم الاستخلاف العام . فالسلطة الدينية (الروحية) (التي عبر عنها القران بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) مخوله  بموجب الاستخلاف العام للجماعة﴿ كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾،لذا فان في الإسلام علماء بالدين وليس به رجال دين،والفارق بين المصطلحين ان المصطلح الاول يفيد التخصص، بينما الثاني يفيد الانفراد، ،وهو ما يعنى ان هناك وسيط بين الإنسان وخالفه (وإذا ساْلك عبادي عنى فاني قريب أجيب دعوه الداعي إذا دعاني).والسلطة السياسية التي عبر عنها القران بمفهوم الأمر مخوله  بموجب الاستخلاف العام أيضا للجماعة(وأمرهم شورى بينهم) ، أما الحاكم فنائب ووكيل عنها لها حق تعيينه ومراقبته وعزله ، يعرف الماوردي البيعة بأنها ( عقد مرضاة واختيار لا يدخله اكراة ولا إجبار)(الأحكام السلطانية، ص 7 ).ويقول أبو يعلي أن الخليفة ( وكيل للمسلمين ).

أضف تعليق